العصبويات المؤدلجة.. الشك سيد العلاقة - الحوثي أنموذجا

الوقوفُ على طبيعة العلاقات الداخلية لأي جماعة، وتشريح طبيعة هذه العلاقة بينيًّا يقتضي التوقف عند نقطتين مهمتين:

 

1ــ المزاج النفسي للجماعة، المتشكل من خلال تاريخها وأدبياتها الثقافية والفكرية.

2ــ طبيعة الظروف السياسية القائمة.

 

للجماعة ــ أي جماعة ــ مزاجٌ نفسيٌ واحد يحكمها كلها وإن كانت متكونة في بنيتها التنظيمية من آلاف الأشخاص، فكما للشخص مزاجه النفسي الخاص، أيضا للجماعة ــ كوحدة ثقافية أو سياسية ــ مزاجها النفسي الواحد؛ كالمزاج النفسي للجماعة الصهيونية، والمزاج النفسي للنازية الهتلرية، والمزاج النفسي للفاشية الموسولينية، وهكذا. وقد ناقشت هذه المسألة باستفاضة في كتابي: "سيكولوجيا النظرية الهادوية في اليمن قراءة في البنية النفسية للنظرية".

 

والجماعة الحوثية في اليمن من العُصبويات المؤدلجة بصبغة خُمينية فارسية، لا تختلف في تكوينها النفسي عن أية عصابة أخرى، الشك والشك المضاد سيد العلاقة بينها في الغالب، ولهذا كانت الظاهرة التاريخية التي تعتبر عقيدة دينية وسياسية للجماعة، وهي ظاهرة الخروج والخروج المضاد لأئمتهم عبر تاريخهم، فما من إمام إلا وخرج على مَن قبله، وخرج عليه مَن بعده، وهو سلوك يعكس أزمة ثقة داخل بنية الجماعة، بل يعكس حالة من التخوين المباشر وغير المباشر؛ لأن القضية خائنة، وبحسب ماديسون: ما من قضية خبيثة إلا وتخون نفسها.

 

السريّة

 

السّريّة من لوازم الأيديولوجيات، والجماعات المشبوهة وغير الشرعية في الدول القائمة، وهي سرية لأنها غيرُ شرعية أساسا، ولو كانت تمتلك المشروعية لما احتاجت للسرية أساسا.

 

إنّ كلَّ جماعةٍ سريةٍ تعتقدُ أنها أفضلُ من غيرها، وأنها الأصوب، فيما غيرها على خطأ، ولا تكاد تعترفُ جماعة سرية ما بشرعية الدول القائمة في الغالب؛ لهذا تؤسسُ نفسَها على هذا الأساس، واهمةً عناصرَها بما تُوهم به "فكرةُ الخلاص" المسيحي أتباعَ يسوع، ترى في البعيد قريبًا، وفي المستحيل ممكنا، وفي اللامعقول معقولا، فتقضي عقودًا من أعمارها، وربما قرونا تبيعُ الوهم لأتباعها الذين تغرقهم في مثاليتها وطوباويتها، وكل فترة بتكتيك جديد وأسلوب مغاير.

 

تعتمدُ الجماعاتُ على السّرية في عملها التنظيمي، لأنها قائمة على أساس غير شرعي/ قانوني، وربما بالغت في سريتها حتى في بعض ما لا يحتاج للسر أساسًا، الأمر الذي يجعلها أكثر شُبهة لدى الدول القائمة؛ بل حتى لدى المجتمعات. ولعل جزءا من هذه السرية قائم على مسألة الوهم الذي يعتري الجماعات السرية وتغرق فيه، في عملية فصام نفسي، مجتمعي، لا يمتُّ للواقع والواقعية بصلة، إلى حد دعوة أحد المنظرين الأيديولوجيين أتباعه لـ "العزلة الشُّعورية" في المجتمع، أي أن تعيشَ في المجتمع ولستَ منهم..!! وضع خطا تحت الجملة الأخيرة..

 

العزلة الشعورية هنا حد تعبيره، لا تعني التوجيه بالقول: كن فصاميًا، كن واهمًا، وبمعنى أوضح: كن شخصية هستيرية، تعيش بين القوم، ولكن منفصلا عنهم..! ولا ندري كيف يعيش شخصٌ ما بمشاعر إيجابية مع مَن حوله، وهو منفصلٌ عنهم شُعوريًا، وينظر لهم أيضا بازدراء..!!

 

التشكيك في الغير

 

بقدرِ ما تنشّئُ الجماعاتُ قطعانها على الثقة ببعضها البعض، والتسليم الكامل بما عند الجماعة من أفكار ومعتقدات، وإن كانت خاطئة وعلى فكرة الترابط الداخلي فيما بينها، فإنها بالمقابل تزرعُ بذورَ الشك بكل مَن عداها، مهما كان غيرهم على صواب. والواقعُ أنَّ الاعتقادَ بالأفضلية يستبطنُ الإيمانَ بتبخيس الغير وازدرائه بصورة غير مباشرة، وإنْ جزئيًا، وكلُّ الجماعاتِ المؤدلجة والسريّة تدعي أنها أفضلُ من غيرها.

 

تؤطّرُ الجماعاتُ قطعانَها بتعاليمَ خاصّةٍ صِيغت سلفًا بمقاسٍ معيّن، لا تتجاوزها إلى غيرها، تتضمنُ هذه التعاليم ــ فيما تتضمنُ ــ التشكيك بمَن عداها؛ لأنَّ التعصبَ للذات يستدعي إيمانًا أعمًى بالمسلّماتِ الجاهزة، كما تستدعي مقاومة الآخر أو مناوءته ارتيابًا مما عنده. ومع تزايد الجهل وانغلاق الفكر يزدادُ إيمانُ القطيع بمسلّماته الخاصة التي توارثها، أو تم حشوها في دماغه.

 

وعادة كل ما ازدادت عمليةُ الرفض للآخر ــ وهي قائمة أساسًا على الشك والارتياب ــ زادت نسبةُ العدوان وحديّته تجاهه؛ لهذا تحرصُ الجماعاتُ على أن تمتلكَ قطيعًا متمايزًا اجتماعيًا، غير منسجم مع الغير، أو متفاعل معه. وفي الغالبِ تمثلُ عمليّة الشك في الغير ضمانة لبقاء هذه الجماعة، ولقوّتها وتماسكها الداخلي؛ لأنّ الأيديولوجيّات لا تعيشُ في الغالب إلا على وهْمِ عدوٍ خارجي، فإذا ما انتفى هذا الوهمُ عادت إلى داخلها في عمليةِ عُدوانٍ مُرتد، ليأكلَ بعضُها بعضًا.

 

والواقع أن هذه العصبويات تظل محافظة إلى حد ما على بعض الثقة فيما بينها قبل أن تصل إلى السلطة، فإذا ما وصلت إلى السلطة بدأت تنخر فيها الخلافات والتخوينات والاتهامات، كما نرى في جماعة الحوثي التي عملت في السر فترة، وحين انقلبوا على الدولة وتفردوا بكل شيءٍ بدأت الاتهامات الداخلية، وعلى إثرها بدأت عملية الاغتيالات التي طالت بعض رموزهم هم قبل غيرهم. ولا تزال عملية الرفض "البيني" قائمة، لأن الجماعة لا تستند على رؤى علمية أو برامج سياسية واضحة، بقدرما تستند على تعليمات سرية داخلية، وهو أسلوب العصابات عادة.

أقراء أيضاً

التعليقات

أخبار مميزة

مساحة اعلانية