كل الطرقِ لا تؤدي إلى عدن!

في المرةِ الأخيرة التي سافرتُ فيها من صنعاءَ إلى عدن؛ كنتُ مضطرًا أن اختارَ الطريق الأنسب الموصلِ إلى الثَّغرِ الحزين، بعد أن غُلِّقت كل الطرقِ المؤديةِ إليها!

اخترتُ أن أركبَ "باصات راحة"، وهذا الاختيار؛ يعني أن يسير بكَ الباص إلى "حدود الحالمةِ المفتعَلة" بفعلِ الفيد والحروب، ومن ثمَّ تنتقل إلى باصاتٍ أخرى صغيرة "ميكروباص" تأخذكَ من طريقِ "وادي الضباب"، الوعر، الموحشِ إذا هبطَ الليل عليكَ وأنتَ تسيرُ في مساربه المرصوفةِ بالحجارةِ والطينِ والعذاب!

وصلنا إلى النقطةِ الفاصلة بينَ التَعزَّين، ولو مددتَ رأسكَ قليلًا من تلةٍ مرتفعة؛ لبدا لكَ وهجُ صبِر يضوعُ الأرجاء، وقلعتها تفيضُ مهابةً وجلالًا.. لكنَّ الحروب القذرة لها قوانين أخرى. تأبى الطرق الممتدة، تحيا على الدَّمار والشَّقاء، ففي لحظاتِ النقلِ المرهقة التي وجدنا أنفسنا مرغمينَ عليها؛ هطلَ المطر فجأة، فابتلت جميعُ الأغراض، وكادت بعض الأوراق المهمةِ أن تتشظَّى!

سارَ بنا الباص الآخر؛ لنبدأ رحلةً جديدة، تبدأ من حدودِ تعز، إلى طرقٍ وأحراشٍ ملتوية، تفتقد لـ كلِّ شيء، وكل ذلك لنصلَ إلى نقطةٍ كانَ من الممكنِ أن نصلَ إليها في بضعِ دقائق بدلًا من ضياعِ ساعاتٍ ذواتِ عدد!

بعد مرور وقتٍ طويل؛ وصلنا إلى المكانِ الذي تنحدرُ فيه إلى السَّائلة "وادي الضباب"؛ كانَ مقطوعًا بسببِ الأمطار التي أوقفتِ الحركة والحياة، عاد السَّائق بنا من طريقٍ آخر، "سيأخذ ضعفَ الوقت الذي سنمضيه في طريقِ السائلة"، بشَرَنا لحظتها بذلكَ الخبرِ المشؤوم على أنغامِ زاملٍ مقرف!

وهكذا؛ خرجنا من صنعاءَ في السَّادسة صباحًا؛ لـ ندخل إلى عدن في الخامسة فجرًا، ولو كنتُ وحدي لاحتملت مشقة الطريق، لكن أطفالي وزوجي كانوا معي، وقد وجدوا من الضيقِ والتعب ما لا يعلمُ به إلا الله.

وكل هذا حدثَ ويحدثُ بسببِ الحدودِ المشؤومة التي ابتدعوها بينَ مدخلي مدينة تعز، أمتار قليلة تفصلُ بين الداخلِ والخارج، ولو فكَّرَ أحدهم بلقاءِ الآخر، لاحتاج إلى ساعاتٍ طويلة كي يصلَ إليه! وهذه من المشقة التي قصمت ظهورَ الناس، وباعدت بينَ الأرحام، وقطعت وشائجَ القرب، واستهلكت عزيز الأوقات، وفصلتِ المدينة، وجعلت منها قطعًا متشظية!

ولو كانَ ثمةَ عقلاء؛ يُعلونَ من شأنِ مصلحةِ الآخرين، ويحكِّمونَ العقل، والضمير، والمنطق، وأخلاق العروبة، وقيم الإسلام، وشيم الجاهلية؛ لأوجدوا حلًا لهذا العبثِ الممتد، والتشظي القبيح، وقد سارت "منطقة كيلو 16" في مدينةِ الحديدة دربَ هذه المدينة، فتم الفصل بينَ مدخليها، وإن كانتِ المشقة أيسر من تلك، لكنها قائمة. ومن شقَّ على العباد، فاشققِ اللهمَّ عليه، واقصمْ ظهره!

هامش١

كتبتُ هذا المنشور بعد أن وقعتْ عيني على هذه الصورة، أرجعتني إلى تلكَ الذكرياتِ المؤسفة، وإن كنتُ بدأتُ أتناسى كثيرًا من الشقاء الذي مررنا به في لحظةِ حلم.

هامش ٢

لم أكتب عن نقاطِ التفتيش الكثيرة التي ترتصُّ في طرقِ الأسفار، شمالًا وجنوبًا، كـ قطاعِ الطرق، وطريقة تعاملهم، وأسئلتهم الغبية التي تنمُّ عن كائناتٍ فرت من مستشفياتٍ للصحةِ العقلية؛ لتقفَ على نقاطِ التفتيش. سيكونُ لهم وقتًا آخر.

من صفحة الكاتب على فيسبوك

أقراء أيضاً

التعليقات

مساحة اعلانية