متلازمة السفاح وتشويه الذاكرة

قَتَل الحجّاج بن يوسف الثقفي بأمر من عبد الملك بن مروان -خليفة الدولة الأموية حينها- عبد الله بن الزبير وفرق جماعته في المدينة، ثم أخمد كل ثورة قامت ضد الدولة الأموية وقتل في فترة ولايته على الحجاز واليمن والعراق آلاف المسلمين، بل ويروي الترمذي أنهم زادوا عن المائة ألف، ولم يستثن منهم حتى كبار علمائهم، وقصته مشهورة مع سعيد بن جبير،  ومقولته كذلك أشهر "إني أرى رؤوسا قد أينعت، وحان قطافها، وإني لصاحبها".

على الأقل هذا ما يتفق عليه أغلب المؤرخين في حق سفاح كالحجاج، كما وتوجد روايات أخرى غير مؤكدة من بينها أنه قصف الكعبة بالمنجنيق في حربه مع عبد الله بن الزبير، فقد كان الرجل يؤمن أن الخروج عن الحاكم يساوي الردة.

وللحجاجِ، حافظُ القرآن ورجل التقى والفتوحات معجبوه كذلك، على الأقل هذا ما عايشته في طفولتي، ولعل هذا الإعجاب الغريب بالرجل يعود إلى المرويات التي نقلت عنه، وعن العدد الكبير تاريخيا من المدافعين عنه، فرجل دولة كالحجاج كان بمقدوره تسخير مئات "الفقهاء" لكتابة سيرته، فموجة التحريف كانت في أوجها مع صعود بني أمية، وعلى رأس هؤلاء ابن تيمية وابن كثير، وقد قال ابن كثير في "البداية والنهاية":

"وقد روينا عنه أنه كان يتدين بترك المسكر، وكان يكثر تلاوة القرآن، ويتجنب المحارم، ولم يشتهر عنه شيء من التلطخ بالفروج، وإن كان متسرعا في سفك الدماء، فالله تعالى أعلم بالصواب وحقائق الأمور وساترها، وخفيات الصدور وضمائرها.

وأعظم ما نقم عليه وصح من أفعاله سفك الدماء، وكفى به عقوبة عند الله عز وجل، وقد كان حريصا على الجهاد وفتح البلاد، وكان فيه سماحة بإعطاء المال لأهل القرآن، فكان يعطي على القرآن كثيرا، ولما مات لم يترك فيما قيل إلا ثلاثمائة درهم".

ولا يبدو القتل والإسراف فيه كبيرا في عيني ابن كثير، فما يهم حقيقة هو أن الحجاج يقرأ القرآن ويطيع الحاكم.

يقع متحف ذكرى الهولوكوست في أحد أكثر مناطق برلين حيوية، بالقرب من بوابة برلين، وكل من السفارات الأمريكية والفرنسية والروسية وغيرها من السفارات التي تملأ المكان، والهولوكوست أو محرقة اليهود -لمن لا يعرفه- هو الإبادة الجماعية التي تعرض لها يهود أوروبا على يد النازيين بقيادة هتلر، و تمتلئ برلين بعدة نصب ومواقع تذكارية تذكر الألمان بمدى بشاعة ما قام به هتلر ومن معه، والعجيب أيضا أن هتلر -هو الآخر- كان مثار إعجاب في فترة ما من طفولته، فهو الرجل الذي قاتل اليهود و قاد بلاده لإرعاب العالم.

هذه الحالة من الإعجاب بالسفاحين و تجاهل جرائمهم تجد لها مكانا في قلوب العرب عموما واليمنيين خصوصًا، إذ لا يزال هناك من يبرر لبشار الأسد ومن يترحم على القذافي.

يعمل اليمنيون على تشويه ذاكرتهم التاريخية، و يبحثون في قلوبهم عن تذكارات تخلد جلاديهم، ابتداء من الإمام و من لا يزال يدافع عنه، مرورا بعلي عبدالله صالح و انتهاء بعبد الملك الحوثي، ويردد الكثيرون ما ردده ابن كثير "فلا نكفر الحجاج، ولا نمدحه، ولا نسبه ونبغضه في الله بسبب تعديه على بعض حدود الله وأحكامه، وأمره إلى الله" في تحايل قبيح على الضحايا و الشعب، و في عملية ممنهجة لتحويل أكبر مجرم عرفته اليمن في تاريخها الحديث -بجانب الحوثي- إلى رمز وطني لا يجوز المساس به فقط لأنه مات.

لا يزال الألمان -إلى اليوم- و بعد أكثر من 70 عاما على موت هتلر يتحدثون عن جرائمه، و يجعلون من أخطائه أحد أهم المحاور التي تقوم عليها أعمالهم الفنية..

لا يريد الألمان أن ينسوا ما قام به هتلر، ولا يريدون أن تتكون لديهم ذاكرة مزيفة، ذاكرة تحفظ للسفاح كرامته و تعطيه مكانا في قلوب الشعب..

لا يريد الألمان أن يروا في أبنائهم طاغية كهتلر، ولا يحاول الألمان أبدا التحجج بأن هتلر قد مات، ولا تجوز على الميت إلا الرحمة.

قد يرى اليمنيون أن الشعب الألماني شعب حقود، و لكنه -في الواقع- شعب صادق ومتصالح مع نفسه ومع أخطاء ماضيه، تعلم منها و يعمل جاهدا على عدم تكرارها، ولا عجب أن نرى الحجاج يعود بكل جبروته وجرائمه مرة باسم صدام حسين و مرة باسم عفاش و مرة باسم بشار و مرة باسم القذافي و مرة باسم الحوثي، فطالما لا يزال هناك من يدافع عن الحجاج ويرى فيه رمزا إسلاميا تاريخيا لا بد من الافتخار به، فإننا سنرى نسخا عدة من الحجاج في المستقبل القريب.

أقراء أيضاً

التعليقات

أخبار مميزة

مساحة اعلانية