التسامي العاطفي في رمضان!!

كان فلاسفة الحب والمحبون عموماً يستغلون شهر رمضان وروحانيته في إفراغ مداد قلوبهم في بطون الكتب، ولذلك يلحظ القارئ اللبيب التسامي والتعالي الروحي في كتب فلاسفة الحب عن الحب، حيث يتم تحييد رغباتهم الجنسية، وتصفيتها، وتنقيتها من الشوائب والغرائز على أنواعها، ومن أهم كتب الحب "طوق الحمامة لابن حزم الأندلسي"، و"روضة المحبين وبستان العاشقين لابن القيم الجوزية"، ولا نستغرب ذلك من تلميذ الإمام ابن تيمية، فمشايخ الدين أعلم الناس بالحب وما يفعله بالنفوس، وإن تظاهر أكثرهم بغير ذلك.

ولا ننسى كبار كتاب العقائد، الذين خاضوا في أمور الجنس، حتى وهناك كتب كثيرة في هذا المجال، منها "عودة الشيخ إلى صباه"، إلى أرجوزة القاضي علي أبو الرجال، ولعلنا نجد في الشعراء من جعل ديوانه موقوفاً للحب النقي، مثل الشاعر العباس بن الأحنف، الذي اعتبره البردوني من أكبر الشعراء؛ لأنه استطاع الكتابة بالغزل وحده، ولكنه جدَّد نفسه مع كل قصيدة وبيت، رغم أنه حبس موهبته في موضوع واحد، وهو الحب إلا أنه استطاع فلسفة الحب كأحسن ما تكون الفلسفة، فسما بالحب والمحب والمحبوب.

ولقد كانت مادة الشعراء العذريين هي المقدمة للحب العفيف، ولكنَّ الكثيرَ من المواقف، وأسباب القصائد، التي قيلت، وموضوعاتها، لا تخلو من مغامرة عاطفية هنا أو هناك، كما في قصة كُثيِّر عَزَّة عندما غمزت له عزة الكنانية - وكان معه دكان يبيع فيه الزيوت والسمون وكانت معاملته من أجمل ما يكون، فكان الناس إذا رأوه على وشك الإفلاس من كثرة الدين، الذي عليهم، تنادوا لتسديد ما عليهم حتى لا يخسروا معاملته الطيبة - فسار خلفها إلى أحد الشعاب، وأظهرت له بعض أجزاء من جسدها لتختبر حبه وهو لا يعرف أنها عزة، فرأته قد بدأ يتخاذل أمام فتنتها، فكشفت له عن نفسها فحاول مصالحتها بقصيدة "طائرة الصيت" من أروع ما كتب في الحب العذري.

ولقد أورد البردوني في بعض كتاباته أدلّة تثبت أن العذريين لم يكونوا عذريين تماماً، لكنهم كانوا يعودون إلى ذواتهم التي تقدس الحب العفيف.

رغم أن الشعراء العذريين كانوا مصدر سخرية من شعراء العصر العباسي الذين عاشوا في بغداد، وقد امتلأت الحانات بالجواري من كل الأجناس، ولم يعد أمام الشاعر -سواء أحب أو لم يحب- إلاّ الذهاب بكل بساطة إلى أقرب حانة للحصول على أجمل جارية، ولعل الشاعر الحسن بن هانئ، المعروف بأبي نواس، كان أكثر الشعراء سخرية من العذريين والجاهليين، ووقوفهم على الديار، والبكاء على الأطلال، ومع ذلك لم يخلُ العصر العباسي من الحب النقي على قلب مثل قلب العباس بن الأحنف، الذي أحب علية بنت المهدي، وهي إحدى أميرات القصور، وبقي حيه سراً، وكان يكَنِّي عنها بأسماء غير اسمها الحقيقي في طول ديوانه المليء بالشغف العاطفي، والمشحون بلغة الوجدان المحب الصادق، مما جعله محل تقدير بين كل فلاسفة الحب؛ شُعراء وكُتَّاب ومفكرين، لكن للحب العذري النظيف النقي مذاق آخر يشتهيه حتى المُجَّان ورواد الحانات، ولعلنا هنا نشير إلى قصة الشاعر  "ديك الجن" مع جاريته، التي أحبها وعشقها حتى الثمالة، ثم راوده الشك بها فقتلها إلى حد أنه كان يشرب الخمر بجمجمتها، وظل بقية حياته نادماً على فعلته حتى مات، بعد أن ثبت له براءتها، فانتقل الأسف إلى كل من يعرف قصتهما، لقد كان العصر العباسي عصرا  كوزموبوليتياً بحق بتعدد الثقافات وأخلاط الأمم، التي سكنت بغداد قلعة الخلافة العباسية، من أول عهد أبي جعفر المنصور حتى عصر الواثق بن المعتصم، وهو العصر الذهبي للعباسيين.

ولم تقتصر فلسفة الحب عند شعراء بذاتهم، بل خاض كثير من الشعراء والكُتَّاب والمؤرخين في فلسفة الحب شعراً ونثراً، وليس آخرهم أبو القاسم الشابي والشاعر عبد الله عبد الوهاب نعمان، وليس أولهم أبو ذؤيب الهُذلي، كان رمضان ملهماً للكثيرين للعودة إلى كُتب فلاسفة الحب؛ للإحساس بالمشاعر الإنسانية،  كان رمضان ومازال عازلاً شفافاً بين شهوات الجسد ومشاعر الحب البرَّاقة التي تسكن الكثير من المحبين.

ولعل كُتب فيلسوف الحب في القرن العشرين، مصطفى صادق الرافعي، كانت ملهمة لأجيال تستقي طهارة الحب وروحانية رمضان، وهي الكتب التي كان تأليفها في شهر رمضان؛ مثل: كتابه "وحي القلم" بمجلداته الثلاثة، الذي علق عليه سعد زغلول قائلاً: "بيانٌ كأنه تنزيلٌ من التنزيل، أو قبسٌ من نور الذكر الحكيم".

وكذلك كتاب "أوراق الورد"، الذي خلُص في نهايته إلى كتابة باب بعنوان "وهم الجمال"، الذي نسف فيه كل تلك المشاعر، وكل ذلك الحب الذي توارثته الإنسانية منذ طفولتها.

ولعل كتاب "رسائل الأحزان والسحاب الأحمر" كان خاتمة كتب الرافعي في فلسفة الحب.

ولذلك يبقى رمضان هو الشهر الذي يغربل المشاعر الإنسانية، ويرتفع بها، ويسمو لتليق بالإنسان المسلم المثقف.

 

أقراء أيضاً

التعليقات

مساحة اعلانية