دراسة لمركز المخا: تهديدات الحوثيين على جانبي مضيق باب المندب وتداعياتها العسكرية والأمنية

خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة مِن العام الحالي (2023م)، أطلقت جماعة الحوثي في اليمن رشقات صاروخية وطائرات انتحارية (غير مأهولة)، على منطقة إيلات (أم الرَّشراش)؛ ثم ضاعفت تهديداتها هذه، جنوبي البحر الأحمر وخليج عدن، مستهدفة سُفنًا تجارية، تزعُم أنَّها مملوكة للحكومة الإسرائيلية التي تمارس حرب إبادة في قطاع غزَّة، منذ اندلاع عملية طوفان الأقصى التي قامت بها حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، في 7 أكتوبر 2023م. وفي 19 نوفمبر الماضي، تعرَّضت سفينة "غالاكسي ليدر"، التي تحمل علم جُزر البهاما، للاختطاف، وجرى اقتيادها إلى ميناء الصليف.

لا تزال الاستجابات الإسرائيلية والأمريكية في أدنى مستوى لها، لكنَّها محلَّ ترقُّب، بما في ذلك اللجوء إلى العنف المضاد، وهذا المسلك مِن شأنه مضاعفة تداعيات التهديدات الحوثية على جانبي مضيق باب المندب، وإضعاف كفاءة وفاعلية البُنى والهياكل الأمنية المحلِّية والإقليمية القائمة، في ظلِّ تنامي تهديدات أخرى غير تقليدية، تقف وراءها جماعات العنف المسلحة في الصومال وإثيوبيا والسودان، وجماعات الجريمة المنظمة العابرة للبحار، كالقرصنة البحرية، وتهريب الأسلحة، والمخدرات، والبشر.

تناقش هذه الورقة التداعيات العسكرية والأمنية للتهديدات الحوثية على جانبي مضيق باب المندب، مركِّزة على نشاطهم التهديدي العنيف، خلال الحرب على غزَّة، التي لا تزال قائمة حتى الفروغ مِن هذه الورقة، وذلك في سياق ثلاثة محاور رئيسة، تجيب عن ثلاثة أسئلة، وهي: ما المظاهر التهديدية التي أثارها الحوثيون على جانبي مضيق باب المندب؟، وما المتغيرات والدوافع المحيطة بهذه التهديدات؟ وما التداعيات العسكرية والأمنية الناشئة على جانبي المضيق؟

 

أوَّلًا: مظاهر التهديدات الحوثية وتفاعلاتها على جانبي مضيق باب المندب:

مثَّلت تهديدات جماعة الحوثي على جانبي مضيق باب المندب، خلال الثلاثة الأشهر الأخيرة مِن العام الجاري، امتدادًا لتهديداتهم خلال حوالي تسع سنوات مِن الحرب، وإن كانت هذه التهديدات قد تراجعت كثيرًا، خلال فترة الهدنة، ما قبل هذه الثلاثة الأشهر؛ علمًا أنَّ الهدنة قد أُعلِنت في 2 أبريل 2022م. فقد استَهدَف الحوثيون، بالصواريخ الباليستية، والطائرات الانتحارية غير المأهولة، موانئ تصدير النفط والغاز، في المناطق الحكومية المشاطئة لخليج عدن وبحر العرب، في الضَّبَّة بمحافظة حضرموت، وقِنا والنُّشَيمة بمحافظة شَبْوة، إضافة إلى منشأة بلحاف الغازية بساحل محافظة شبوة نفسها، وذلك بعدَّة هجمات متنوِّعة ومتفرقة، خلال شهري أغسطس وأكتوبر 2022م.

وكان لسفن تجارية أخرى، حاولت ارتياد موانئ حكومية في هذه المناطق وغيرها، نصيبٌ مِن هذا التهديد على سبيل التحذير. ففي أغسطس 2023م، كشف رئيس المجلس السياسي الأعلى، في سلطة جماعة الحوثي، مهدي المشَّاط، عن تحذيرات شديدة اللهجة وجِّهت لسفينة تجارية اقتربت مِن ميناء عدن، بقصد تحميل شحنة مِن الغاز، ما دفعها إلى تغيير خطِّ سيرها نحو ميناء الدُّقم، بسلطنة عُمان. وقد أكَّد هذه الواقعة، ووقائع أخرى مماثلة، تقرير فريق خبراء مجلس الأمن المعني باليمن، الذي صدر مطلع نوفمبر 2023م، مشيرَا إلى قيام الحوثيين بتهديد الشركتين اللَّتين تملكان ناقلتي الغاز المسال "سنمار ريجنت"، و "إيبك بوليفار"، لحرمان السفينتين مِن القيام بالشحن .

في 19 أكتوبر 2023م، أطلق الحوثيون أول دفعة مِن الصواريخ والطائرات الانتحارية غير المأهولة، نحو الأراضي الفلسطينية المحتلة، تزامنًا مع قيام رئيس هيئة الأركان العامة في الجيش اليمني، الفريق صغير بن عزيز، ومعه مجموعة مِن القادة، بزيارة منطقة ميدي الساحلية، بمحافظة حجَّة، وجزيرة بَكلان التي ترابط فيها قِطَع مِن التشكيل البحري العسكري. وقد أعلنت البحرية الأمريكية اعتراض بعضٍ مِن هذه المقذوفات، في البحر الأحمر، مشيرة إلى أنَّ أيًّا مِنها لم يكن يقصد سفن البحرية الأمريكية. وقامت الدفاعات الجوية السعودية باعتراض بعض مِنها، فيما سقط مقذوف صاروخي مِنها في المنطقة التي زارها رئيس هيئة الأركان، ولم يُعلن الحوثيون مسئوليتهم، خلافًا للهجمات التي تلت ذلك.

مع اشتداد الحرب الإسرائيلية على غزَّة، تصاعدت هجمات الحوثيين على شمالي خليج العقبة، ولجأت إلى اختطاف سفن تجارية مملوكة لحكومة إسرائيل، أو ترتبط بها على أيِّ نحو؛ وقد وقعت في قبضتهم السفينة "غالاكسي ليدر"، التي تحمل عَلَم جُزر البهاما الذي يُعبِّر عن جنسيتها. وقد أشارت مصادر عديدة إلى أنَّ السفينة مملوكة لشركة "راي كار كاريير"، التي مقرُّها في المملكة المتَّحدة، وأنَّ رجُل الأعمال الإسرائيلي، "أبراهام أونغار"، يشارك في ملكيَّتها . والسفينة هذه متخصصة في نقل السيارات، لكنها كانت فارغة، وفي رحلة بين تركيا والهند، ولا تزال رهن الاختطاف منذ 19 نوفمبر الماضي، مع طاقمها الذي لا يضم إسرائيليًّا واحدًا.

خلال النصف الأول مِن نوفمبر الماضي، كشف الحوثيون عن إسقاط طائرة غير مأهولة أمريكية مِن طراز "إم كيو-9 رايبر"، في أجواء البحر الإقليمي اليمني الخاضع لسيطرتهم، جنوبي البحر الأحمر، بينما كانت في مهمَّة تجسُّسية، عقب تصاعد تهديدات الحوثيين في المنطقة. حيث اعترضت البحرية الأمريكية -خلالها- عددًا مِن الصواريخ والطائرات غير المأهولة. وفي 26 مِن الشهر ذاته، أحبطت المدمِّرة "يو. إس. إس. ماسون"، في خليج عدن، محاولة لخطف ناقلة النفط "سنترال بارك"، التابعة لشركة "زودياك البحرية"، التي تنتمي إلى مجموعة تجارية إسرائيلية تُعرف بـ"مجموعة زودياك"، ومقرُّها لندن، وقد نَسبَت البحرية الأمريكية محاولة الخطف إلى قراصنة صوماليين . ومع ذلك تظلُّ الشكوك قائمة بشأن ضلوع الحوثيين فيها، ما دامت القضية مفتوحة، ولم يُكشَف عن نتائجها؛ إذ أنَّ هنالك تخادمًا مرصودًا بين الحوثيين وجماعات عنف صومالية، تجمعهم تهريب الأسلحة والاتجار غير المشروع فيها . ومن المؤكَّد أنَّ قدرات الحوثيين ليست كافية للقيام بعملية قرصنة مباشرة في خليج عدن، نظرًا إلى بُعد الخليج عن مناطق سيطرتهم في البحر الأحمر.

تواصلت هجمات الحوثيين على السفن التجارية، والأراضي الفلسطينية المحتلَّة، حتى نهاية الأسبوع الأوَّل مِن ديسمبر الجاري؛ حيث اعترضت البحريتين الأمريكية والفرنسية مقذوفات مختلفة، قبالة السواحل اليمنية في البحر الأحمر. وفي آخر مظهر للتهديدات، أعلن الحوثيُّون، في 9 ديسمبر الجاري، عزمهم استهداف أيِّ سفينة تكون وجهتها الموانئ الإسرائيلية، أيًّا كانت جنسيَّتها، وأنَّ هذا الإجراء جاء بعد نجاحهم في حرمان السفن الإسرائيلية مِن المرور في البحر الأحمر.

وفيما يبدو تحوُّلًا في طبيعة التهديد، فقد تراجعت محاولات الحوثيين لخطف السفن التجارية، وفي المقابل تصاعدت هجماتهم الصاروخية وبالطائرات غير المأهولة، وكلُّها بمبرِّر ارتباط السفن بحكومة إسرائيل. ومع أنَّ هذه الهجمات بلغت أزيد مِن عشرين هجمة بحرية، إلَّا أنَّه لم يُسجَّل سوى إصابتين طفيفتين، خلال الأربع هجمات الصاروخية وبالطائرات الانتحارية غير المأهولة، التي حاولت استهداف ثلاث سُفن تجارية، في 3 ديسمبر الجاري، والتي اعترضت ثلاثًا مِنها المدمِّرة الأمريكية "يو. إس. إس. كارني". وهذه السفن تجارية مخصَّصة للشحن السائب، وهي: "يونيتي إكسبلور"، والسفينة "نمبر ناين"، والسفينة "صوفي-2". وقد تعرَّضت السفينة الأولى لثلاث هجمات، أصابتها واحدة، وأصيبت الثانية معها، وكلُّها خلَّفت أضرارًا طفيفة . وعقب ذلك أقرَّ الحوثيون بوقوفهم وراءها، زاعمين أنَّها سفن إسرائيلية، وأنَّها رفضت الاستجابة للتحذيرات الصادرة عن القوَّات البحرية الحوثية.

في السياق، عَمِد الحوثيون إلى توجيه أوامر ونصائح مضلِّلة السفن عبر كيان مجهول، وفقًا لهيئة عمليات التجارة البحرية البريطانية، التي صرَّحت -غير مرَّة- بأنَّ هذا الكيان ينتحل صفة السلطات اليمنية، ويوجِّه السفن بتغيير مسارها نحو موانئ الحديدة. وخلال السنوات الماضية للحرب، جرت الإشارة إلى السفينة الإيرانية "سافيز" التي كانت ترابط قبالة السواحل الإرتيرية، ثمَّ خلفتها السفينة "بهشاد"، بأنَّهما تؤديان دورًا استخباريًّا بحريًّا لدعم الحوثيين؛ وزاد مِن هذه الشكوك -حينذاك- نجاح الحوثيين، في فبراير 2022م، في اختطاف السفينة "روابي" المملوكة للإمارات، بينما كانت في طريقها إلى أحد الموانئ السعودية في البحر الأحمر، وعلى متنها معدَّات طبية لمستشفى عسكري كان في جزيرة سُقطرى اليمنية.

مِن المحتمل أن يكون المركز الإقليمي البحري لتبادل المعلومات بصنعاء هو الكيان المجهول المشار إليه سابقًا؛ حيث يُعَدُّ أحد ثلاثة مراكز إقليمية لتبادل المعلومات البحرية، ويقع أحدها في دار السلام (تنزانيا)، ويقع الثاني في نيروبي (كينيا)، وكلُّها تنظِّم تشاطر المعلومات البحرية مع السفن، وملَّاكها، ومشغِّليها، ونقاط اتِّصال وطنية في الإقليم، وذلك وفقًا لأحكام مُدوَّنة قواعد السلوك لمواجهة القرصنة البحرية لعام 2009م (مُدوَّنة سلوك جيبوتي-2009)، والتي حُدِّثت عام 2017م، لتشمل كافَّة التهديدات غير التقليدية، وباتت تُعرَف بمدوَّنة جَدَّة . ولا يُستبعد، كذلك استغلال الحوثيين منظومة خدمة مرور السفن (VTS)، Vessel traffic Services، التابعة لقوَّات خفر السواحل الخاضعة لسيطرتهم، في إثارة التهديدات البحرية تجاه السفن؛ فقد ثبت سلوكهم هذا خلال سنوات الحرب، ما قبل إعلان الهدنة الإنسانية.


ثانيًا: المتغيِّرات والدوافع المحيطة بالتهديدات على جانبي مضيق باب المندب:

ثمَّة متغيِّرات عديدة، سابقة ومصاحبة، لتهديدات الحوثيين على جانبي مضيق باب المندب، وقد تشابكت مع اتِّجاهات وسياقات مختلفة.

1- المتغيِّرات والدوافع الداخلية:

تُعَد العملية السياسية الحالية، الرامية لإخراج البلاد مِن الحرب الناشبة منذ تسع سنوات، المتغيِّر الداخلي الأساسي، الذي يتشابك مع ما يثيره الحوثيون مِن تهديدات على جانبي مضيق باب المندب؛ حيث يسعى الحوثيون لتعزيز موقفهم التفاوضي بمختلف الوسائل المتاحة، ومِن ذلك تعمُّد خلق ظروف بحرية شديدة التأثير على مصالح وسطاء عملية السلام، والمنتفعين مِنها، وفي المقدِّمة الولايات المتَّحدة وبريطانيا وفرنسا والسعودية. إذ تُبدي هذه الدول مرونة كبيرة تجاه ما دأب عليه الحوثيون مِن فرض اشتراطات متتالية لاستمرارهم في عملية السلام، التي بدأت بالهدنة الإنسانية المعلنة في 2 أبريل 2023م، ويعبِّر عن هذا سياسة ضبط النفس التي تبديها هذه الدول إزاء الممارسات الحوثية في البحر، والتي سبق أن توعَّد بها قادة الحوثيين، بمَن فيهم زعيمهم عبدالملك الحوثي، الذي شكَا مِن حالة اللَّاسِلم واللَّاحرب، مهدِّدًا بالتصعيد العسكري، إذا لم يُدفع بعجلة السلام إلى الأمام، ووفقًا لتصورات جماعته.

إلى ذلك، أفرزت الهدنة الإنسانية حالة سخط تجاه الحوثيين في مناطق سيطرتهم، نظرًا إلى استمرار سوء الأوضاع الاقتصادية والخدمية، والحقوق الحريات، وفرض الجبايات المالية التي ضاعفت معاناة التجار والسكان على حدٍّ سواء. فقد أسقطت الهدنة ذرائع الحوثيين بشأن سيادة هذه الأوضاع، وأنَّ وراءها استمرار الحرب وضخامة التزاماتها، ممَّا خلق سخطًا شعبيًّا كاد أن يتحوَّل إلى ثورة شعبية، في ظلِّ تجاهل الحوثيين لأبرز مناسبة وطنية في وجدان الشعب اليمني، ألا وهي ذكرى ثورة 26 سبتمبر 1962م. ولذلك شكَّلت الهجمات الحوثية على مصالح إسرائيل والقوى العظمى في البحر الأحمر وخليج عدن مصدر إلهاء عن المطالب الحقوقية، وباعثًا للفخر بأنَّ الحوثيين وحدهم مَن ساند عسكريًّا فلسطينيي غزَّة، في مواجهة إسرائيل. ومثَّل هذا إحراجًا للأنظمة العربية الحاكمة أمام شعوبها، إضافة إلى سعي جماعة الحوثي لاكتساب شرعية محلِّية وخارجية مِن خلال هذا الموقف، وإبقائهم على ذريعة بقاء الحرب .

ثمَّة متغيِّر وثيق بالهجمات الحوثية على السفن، أو محاولات اختطافها، ألا وهو التعميم الصادر عن المنظَّمة البحرية الدولية إلى ملَّاك السفن ومشغِّليها، ومراكز تبادل المعلومات الإقليمية ذات الصلة، بشأن وقف التعامل مع المركز الإقليمي لتبادل المعلومات، الذي سبق الإشارة إليه، على أن يجري الاعتماد على المركز الذي يحمل الاسم ذاته في مدينة عدن الخاضعة لسيطرة الحكومة اليمنية . ويبدو أنَّ هذا الحدث أثار حفيظة جماعة الحوثي، فسعت لإثبات أنَّها رقم يصعُب تجاهله.

2- المتغيِّرات والدوافع الإقليمية والدولية:

تُشكِّل المصالحة السعودية الإيرانية التي أُنجزت برعاية صينية، في مارس 2023م، متغيِّرًا وثيق الصلة بالتهديدات الحوثية في البحر الأحمر، سواء في التوظيف الإيراني لهذه التهديدات، أو في حرص السعودية على كلِّ ما مِن شأنه صمود هذه المصالحة، ودعم عملية السلام في اليمن. وبين هذا وذاك يُناور الحوثيُّون، وفي الحدود المتاحة لهم، تحقيقًا لمصالحهم. وفي هذا الاتِّجاه لا يُغفل مشروع الممرِّ الاقتصادي المعلن عنه في قمة العشرين، في نيودلهي، في سبتمبر الماضي، والذي سيربط بين الهند وأوربَّا، مرورًا بالإمارات والسعودية وإسرائيل، وكذلك قناة بن غوريون المائية التي يخطَّط لِأن تُشقَّ لتربط بين خليج العقبة والبحر الأبيض المتوسط، والتي تمثِّل الحرب الإسرائيلية الأمريكية في غزَّة تمهيدًا لهما، وارتباط كلٍّ مِنهما بحسابات جيوسياسية لأطراف إقليمية ودولية، مِن بينها إيران التي تدعم الحوثيين وتُقايض معهم وبهم، وبحرب غزَّة، تحقيقًا لحصَّتها في هذه الحسابات .

كذلك، تأتي حرب إسرائيل على غزَّة بوصفها أبرز متغيِّر إقليمي ودولي يحيط بنشاط الحوثيين العِدائي في البحر الأحمر وخليج عدن؛ إذ يربط الحوثيُّون تهديداتهم بفضائع إسرائيل بحقِّ الشعب الفلسطيني، وأنَّ وقف الهجمات على السفن الإسرائيلية مرهون بوقف العداون على غزَّة، لكنَّ هذا المطلب تراجع إلى السماح بدخول الغذاء إلى غزَّة، وفقًا للموقف الحوثي المعلن عنه في التَّاسع مِن ديسمبر الجاري، والذي اشترط لتوقُّف استهداف أيِّ سفينة ترتاد موانئ إسرائيل عبر البحر الأحمر أن يُسمح بدخول الغذاء إلى غزَّة.

 

ثالثًا: التداعيات العسكرية والأمنية للتهديدات على جانبي مضيق باب المندب:

قفزت التهديدات الحوثية بالأمن البحري على جانبي مضيق باب المندب إلى مستوى غير متوقَّع مِن الخطر، ساعة دخول الهدنة الإنساية الحالية، حيِّز النفاذ، في 2 أبريل 2022م؛ حيث كانت الأطراف الراعية لعملية السلام تتوخَّى تحقيق تهدئة دائمة ومستقرَّة في البر البحر. وهذه القفزة تجاوزت ما عبَّر عنه تقرير فريق خبراء مجلس الأمن الذي سبقت الإشارة إليه، حين قال: إنَّ مستوى التوتُّر في البحر الأحمر مرتفع . ذلك أنَّ التقرير لم يسعفه الوقت ليقف على الوضع المتأزِّم على جانبي المضيق، بعد هجمات 19 أكتوبر التي مثَّلت مُفتتحًا لدورة عنف بحرية قد تطول أو تقصر، وهذا مرهون بقدرة الأطراف المقابلة للحوثيين وإيران على إبقاء الأزمة الراهنة عند حدود التحكُّم.

خلال دورة العنف البحرية الحوثية الراهنة، اشتدَّ النشاط العسكري والأمني للحوثيين والأطراف الحكومية المناوئة لهم على نحو لافت; حيث ضاعف الحوثيُّون عدد قوَّاتهم في السواحل التي تخضع لهم، وركَّزوا جهودهم العسكرية البحرية في جزيرة كَمَران الواقعة قبالة ميناء الصليف بالحُديدة، مع تعزيز وسائل الاقتراب الحرِج، جنوبًا وشمالًا، مِن مناطق سيطرة القوَّات البحرية الحكومية، والتي تشهد -هي الأخرى- تحشيدًا مماثلًا، مع تحرُّك للقوَّات المشتركة في الساحل الغربي، وقيام الإمارات بإعادة نشر عدد مِن بطَّاريات "باتريوت" (دفاع جوي) في هذه المناطق، وتحريك حليفها في مجلس القيادة الرئاسي، عيدروس الزبيدي، الذي عاد مِن الرياض والتقى -مباشرة- قادة القوَّات البحرية والدفاع الساحلي، ثمَّ وزير الدفاع، الفريق محسن الداعري، فضلًا عن تحرُّكات الوزير في محافظة حضرموت المشاطئة لبحر العرب.

جسَّدت اللقاءات المتتالية لرئيس هيئة الأركان العامَّة، الفريق صغير بن عزيز، بقادة عسكريين أمريكيين وسعوديين، الاستجابة الأولى لتهديدات الحوثيين. وخلال الأسبوع الأوَّل مِن ديسمبر الجاري، قام مع وفد رفيع المستوى بزيارة مصر، وخرجت الزيارة بالتوافق على تعزيز التدريب البحري، واتِّخاذ تدابير أمنية مشتركة في البحر الأحمر. وهنا تبرز الاستجابة المصرية للتهديدات الحوثية التي تُطاول -مباشرة- قناة السويس، ويتعدَّد معها الدور المصري ويتنوَّع، بالنظر إلى الوجود الأساسي والمستقل للقوَّات البحرية المصرية في البحر الأحمر، ووجودها ضمن فرقة العمل البحرية المشتركة 153، بجانب السعودية، والأردن، وبريطانيا، وكذلك الولايات المتَّحدة، التي أعلنت عن تشكيل هذه الفرقة، في أبريل 2022م .

لقد فتحت التهديدات الحوثية الباب واسعًا أمام العسكرة الأجنبية لمضيق باب المندب، وعلى جانبيه، وربَّما الجزر اليمنية، خاصة سُقَطرى، وميُون (بريم)، وحُنَيش، وزُقَر، والزُّبير، التي تخضع جميعها، للقوات الحكومية، وكلها مدعِّمات للأمن البحري في منطقتي البحر الأحمر وخليج عدن، الشديدتي الحساسية لصناعة النقل البحري . ويبدو أنَّ المحاولات التي بذلتها الدول العربية المشاطئة لهما، في سبيل تبنِّي نظام أمني بحري، قد تراجعت كثيرًا، إن لم تكُن قد تلاشت. ومِن ذلك مساعي السعودية ومصر لإنشاء ما عُرف بمجلس تعاون الدول العربية والإفريقية المطلَّة على البحر الأحمر، الذي أُعلن عن اكتمال تأسيسه بالرياض، في يناير 2020م. ولعلَّ مبعث هذا الاعتقاد إزماع الولايات المتحدة تشكيل تحالف ٍأمني بحري يضمُّ (32) دولة، وفقًا لما كُشِف عنه في 8 ديسمبر الجاري، وقد يضمُّ إسرائيل التي ظلَّت بعيدة عن أيِّ ترتيبات أمنية جماعية في البحر الأحمر . وهو اتِّجاه أمني جديد يروَّج له في منابر الفكر السياسي الأمريكي؛ حيث يُشار -صراحة- إلى دول هذا التحالف، وهي: السعودية ومصر والأردن وإسرائيل، علاوة على الولايات المتحدة .

إنَّ دخول إسرائيل في معادلة الأمن الإقليمي لحوض البحر الأحمر، يجعل المعادلة الأمنية فيه مختلفة تمامًا عمَّا مضى، ولا يؤسِّس ذلك إطلاقًا لاستقرار دائم، لا سيَّما أنَّ الحوثيين -وهم الحليف الإقليمي الأقوى لإيران- ينظرون إلى هذا الوضع بوصفه تهديدًا مباشرًا لمستقبلهم السياسي، وللطُّموحات البحرية لإيران في المنطقة. وممَّا يُعزِّز هذا القلق ارتباط إسرائيل والإمارات بمعاهدة أبراهام أو المعاهدة الإبراهيمية، وهذه الأخيرة تتموضع، ذاتيًّا، وعبر حلفاء يمنيين وإقليميين، في البحر الأحمر وخليج عدن.

تظلُّ مسألة عسكرة البحر الأحمر وخليج عدن فرصة ثمينة أهداها الحوثيون وإيران للولايات المتَّحدة والقوى الدولية التي تدور في فلكها، وعلى رأسها إسرائيل، ولن تنعكس تأثيرات هذه العسكرة على أمن وسيادة ومصالح دول المنطقة فحسب، بل والأمن الدولي والمصالح الدولية، والتي تحضر فيها بقوَّة الصين التي ستُستهدَف مِن زاويتين هما: التضييق على وجودها العسكري في جيبوتي، وتقطيع أوصال مبادرتها الموسومة بـ"الحزام والطريق". لذلك، قد نشهد موقفًا غير معهود للصين إزاء أيِّ عنف قد ينشب في المنطقة، وإن كان هذا الموقف غير مباشر، لكنَّه سيكون وثيق الصلة بفواعل هذا العنف، وأدواته الصلبة.

 

خاتمة:

سلَّطت الورقة الضوء على ثلاث زوايا في مشهد ما يثيره الحوثيون مِن شواغل أمنية، على جانبي مضيق باب المندب، وهذه الزوايا هي: المظاهر التي تجسِّد هذه الشواغل أو التهديدات، ودوافعها والظروف أو المتغيِّرات المختلفة المحيطة بها، وما نجُم أو قد ينجُم عنها أمنيًّا وعسكريًّا، بما فيها المساس بالترتيبات الأمنية والتموضعات العسكرية القائمة.

وممَّا خرجت به الورقة أنَّ ما يثيره الحوثيون مِن تهديدات لا تنحصر في ادِّعاءاتهم بشأن نُصرة الفلسطينيين في غزَّة، بل هناك عوامل داخلية وخارجية تتعلَّق بوجودهم السياسي؛ وأنَّ ثمَّة تدافعًا لقوى الصراع في الأراضي اليمنية المشاطئة، وفي بحارها، وأنَّ الأيام القادمة قد تشهد تدريجيًّا عسكرة أجنبية على جانبي مضيق باب المندب، وفي الجُزر والسواحل اليمنية، وهذه العسكرة لن يقف تأثيرها عند أمن دول الإقليم ومصالحها وسيادتها، بل ومِثل ذلك بالنسبة إلى العالم كلِّه، نظرًا إلى تعقُّد شبكة المصالح التي تتجمَّع فيها، ويدخل في دائرة ذلك -إلى جانب دول الإقليم- إيران والصين.

أقراء أيضاً

التعليقات

أخبار مميزة

مساحة اعلانية